فصل: باب زكاة السوائم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***


باب زكاة السوائم

‏(‏السائمة التي تكتفي بالرعي في أكثر حولها، فإن علفها نصف الحول أو أكثره فليست بسائمة‏)‏ لأن أربابها لا بد لهم من العلف أيام الثلج والشتاء، فاعتبر الأكثر ليكون غالبا، لأن السوم إنما أوجب الزكاة لحصول النماء وخفة المئونة، وإنه يتحقق إذا كانت تسام أكثر المدة؛ أما إذا علفت فالمئونة تكثر وكثرتها تؤثر في إسقاط الزكاة كالمعلوفة دائما فاعتبر الأكثر، وهي التي تسام للدر والنسل والنماء؛ أما لو سيمت للحمل والركوب فلا زكاة فيها لعدم النماء ‏(‏والإبل تتناول البخت والعراب‏)‏ لأن الاسم ينتظمها لغة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والبقر يتناول الجواميس أيضا‏)‏ لأنها نوع منها ‏(‏والغنم الضأن والمعز‏)‏ لأن الشرع ورد باسم الغنم فيهما واللفظ ينتظمهما لغة‏.‏

فصل ‏[‏زكاة الإبل السائمة‏]‏

‏(‏ليس في أقل من خمس من الإبل السائمة زكاة‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «في خمس من الإبل السائمة صدقة»‏.‏ وعليه يحمل المطلق، لأن الحادثة واحدة، والصفة إذا قرنت باسم العلم صار كالعلة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وفي الخمس شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشر ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، وهي التي طعنت في السنة الثانية، وفي ست وثلاثين بنت لبون وهي التي طعنت في الثالثة، وفي ست وأربعين حقة وهي التي طعنت في الرابعة، وفي إحدى وستين جذعة وهي التي طعنت في الخامسة وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين‏)‏ ولا خلاف في هذه الجملة بين العلماء، وعليها اتفقت الأخبار عن كتب الصدقات التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ثم في الخمس شاة كالأول، إلى مائة وخمس وأربعين ففيها حقتان وبنت مخاض، إلى مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق؛ ثم في الخمس شاة كالأول، إلى مائة وخمس وسبعين ففيها ثلاث حقاق وبنت مخاض، وفي مائة وست وثمانين ثلاث حقاق وبنت لبون، وفي مائة وست وتسعين أربع حقاق إلى مائتين، ثم تستأنف أبدا كمااستأنفت بعد المائة والخمسين‏)‏ وهو مذهب علي وابن مسعود، وهكذا كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقات لأبي بكر رضي الله عنه‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام في كتاب عمرو بن حزم‏:‏ «فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة، فما كان أقل من خمس وعشرين ففيها الغنم في كل خمس ذود شاة»‏.‏وهذا تقدير لما أجمعوا عليه من الفريضة إلى مائة وعشرين، فكان أولى من تغييره ومخالفته‏.‏

فصل ‏[‏زكاة البقر‏]‏

‏(‏ليس في أقل من ثلاثين من البقر شيء، وفي ثلاثين تبيع أو تبيعة، وهي التي طعنت في الثانية، وفي أربعين مسن أو مسنة، وهي التي طعنت في الثالثة‏)‏ بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا وعليه إجماع الأمة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما زاد بحسابه إلى ستين‏)‏ عند أبي حنيفة رحمه الله؛ وفي رواية الأصل‏:‏ ففي الواحدة ربع عشر مسنة أو ثلث عشر تبيع، وفي اثنين نصف عشر مسنة أو ثلثا عشر تبيع، وعلى هذا لأنه لا نص في ذلك، ولا يجوز نصب النصب بالرأي فيجب بحسابه‏.‏ وروى ابن زياد عنه‏:‏ لا شيء في الزيادة حتى تبلغ خمسين، ففيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع لأن الأوقاص في البقر تبيع كما قبل الأربعين وبعد الستين، وروى أسد بن عمر عنه‏:‏ لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين، وهو قول أبي يوسف ومحمد لقول معاذ في البقر‏:‏ لا شيء في الأوقاص، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏وفي الستين تبيعان أو تبيعتان، وفي سبيعن مسنة وتبيع، وفي ثمانين مسنتان، وعلى هذا ينتقل الفرض، في كل عشرة من تبيع إلى مسنة‏)‏ ومن مسنة إلى تبيع، عليه انعقد الإجماع وبه وردت الآثار‏.‏

فصل ‏[‏زكاة الشياه‏]‏

‏(‏ليس في أقل من أربعين شاة صدقة، وفي أربعين شاة إلى مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان، إلى مائتين وواحدة ففيها ثلاث شياه، إلى أربعمائة ففيها أربع شياه، ثم في كل مائة شاة‏)‏ بذلك تواترت الأخبار ولا خلاف فيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وأدنى ما تتعلق به الزكاة، ويؤخذ في الصدقة الثني، وهو ما تمت له سنة‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يجزي في الزكاة إلا الثني»‏.‏

وعن علي رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا‏:‏ «لا يؤخذ في الزكاة إلا الثني فصاعدا»‏.‏وروي أنه يؤخذ الجذع من الضأن، وهو الذي أتى عليه أكثر السنة وهو قولهما، أما المعز لا يؤخذ إلا الثني اعتبارا بالأضحية، والأول ظاهر الرواية وهو الصحيح، ولا يؤخذ من الإبل إلا الإناث، ويؤخذ من البقر والغنم الذكور والإناث، لأن النص ورد بلفظ الإناث بقوله بنت مخاض وبنت لبون وحقة وجذعة، وفي البقر والغنم بلفظ البقر والشاة وأنه يعمهما‏.‏

فصل ‏[‏زكاة الخيل‏]‏

‏(‏من كان له خيل سائمة ذكور وإناث، أو إناث، فإن شاء أعطى عن كل فرس دينارا، وإن شاء قومها وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم‏)‏ وقال أبو يوسف ومحمد لا زكاة في الخيل لرواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة»‏.‏ ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وهذا من جملة الأموال‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم، وليس في الرابطة شيء»‏.‏رواه جابر‏.‏ وكتب عمر إلى أبي عبيدة‏:‏ أن خذ من كل فرس دينارا أو عشرة دراهم‏.‏ وقياسا على سائر السوائم‏.‏ وما رواه أبو هريرة، قال زيد بن ثابت‏:‏ إنما أراد به فرس الغازي‏.‏ وعن أبي حنيفة رحمه الله‏:‏ لا شيء في الإناث الخلص لعدم النماء والتوالد، والصحيح الوجوب لقدرته عليه باستعارة الفحل، وعنه في الذكور روايتان الأصح أنه لا يجب لأنه لا نماء بالولادة ولا بالسمن، لأن عنده لا يؤكل لحمها؛ ووجه رواية الأجوب أن زكاة السوائم لا تختلف بالذكورة والأنوثة كالإبل والبقر؛ والفرق أن النماء يحصل فيهما بزيادة اللحم وهو مقصود، بخلاف الخيل لما مر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا زكاة في البغال والحمير‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام سئل عنها، فقال‏:‏ «لم ينزل عليّ فيها شيء إلا الآية الجامعة ‏(‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7‏]‏» قال‏:‏ ‏(‏ولا في العوامل والعلوفة‏)‏ لما تقدم من اشتراط السوم‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ليس في البقر العوامل صدقة»‏.‏

رواه ابن عباس، ولأن النماء منعدم فيها، لأن المئونة تتضاعف بالعلف فينعدم النماء معنى، والسبب المال النامي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا في الفصلان والحملان والعجاجيل‏)‏ وقال أبو يوسف‏:‏ فيها واحدة منها‏.‏ وقال زفر‏:‏ فيها ما في الكبار، لأن قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «في خمس من الإبل شاة»‏.‏وقوله‏:‏ «في أربعين شاة شاة»‏.‏ اسم جنس يتناول الكبار والصغار‏.‏ ولأبي يوسف‏:‏ أن في إيجار المسنة إجحافا بالمالك، وفي عدم الوجوب أصلا إضرارا بالفقراء، فيجب واحدة منها كالمهازيل‏.‏ ولهما حديث سويد بن غفلة أنه قال‏:‏ «أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول‏:‏ في عهدي أن لا آخذ من راضع اللبن شيئا»‏.‏ ولأن النصب لا تنصب إلا توقيفا أو اتفاقا وقد عدما في الصغار، ولأن الشرع أوجب أسنانا مرتبة في نصب مرتبة، ولا مدخل للقياس في ذلك، وليس في الصغار تلك الأسنان‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إلا أن يكون معها كبار‏)‏ ولو كانت واحدة لأنها تستتبع الصغار لما تقدم من قول عمر رضي الله عنه عد عليهم السخلة، ولو جاء بها الراعي على يده‏.‏ ثم عند أبي يوسف في أربعين حملا حمل، وفي مائة وأحد وعشرين اثنان، وفي مائتين وواحدة ثلاثة، وفي أربعمائة أربع، ثم في كل مائة واحدة كالكبار‏.‏

وفي كل ثلاثين عجلا عجل، ففي الثلاثين واحد، وفي الستين اثنان، وفي تسعين ثلاثة، وفي مائة وعشرين أربعة وهكذا أما الفصلان؛ فعنه أنه لا يجب شيء إلى خمس وعشرين فتجب واحدة منها، ثم لا يجب شيء حتى تبلغ عددا لو كانت كبارا يجب ثنتان وهو ستة وسبعون فيكون فيها فصيلان، ثم لا يجب شيء حتى تبلغ عددا لو كان كبارا يجب فيها ثلاثة وهي مائة وخمس وأربعون فيجب ثلاث فصلان وهكذا‏.‏ وعنه أيضا أنه يجب في الخمس الأقل من قيمة شاة ومن خمس فصيل، وفي العشر الأقل من شاتين وخمس فصيل‏.‏ وعنه أيضا أنه يجب في الخمس خمس فصيل، وفي العشر خمسا فصيل وهكذا؛ وصورة المسألة لرجل له نصاب من السائمة مضى عليها بعض السنة فولدت ثم ماتت الأمهات فحال الحول على الأولاد، فعندهما ينقطع حكم الحول والزكاة‏.‏ وعند أبي يوسف وزفر لا ينقطع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا في السائمة المشتركة إلا أن يبلغ نصيب كل شريك نصابا‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا انتقص شياه الرجل من أربعين فلا شيءعليها»‏.‏ولأنه إنما تجب باعتبار الغنى ولا غنى إلا بالملك، فإنه لا يعد غني بملك شريكه، ويستوي في ذلك شركة الأملاك والعقود، فلو كان بينه وبين آخر خمس من الإبل أو أربعون شاة فلا شيء على واحد منهما، ولو كان بينهما عشر من الإبل أو ثمانون شاة فعلى كل واحد منهما شاة، ولو كانت بين صبي وبالغ فعلى البالغ شاة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن وجب عليه سن فلم يوجد عنده أخذ منه أعلى منه ورد الفضل أو أدنى منه وأخذ الفضل‏)‏ وهذا يبنى على جواز دفع القيمة، ثم الخيارلصاحب المال هو الصحيح، إن شاء أدى القيمة، وإن شاء أدى الناقص وفضل القيمة أو الزائد وأخذ الفضل، وليس للساعي أن يأبى شيئا من ذلك إذا أداه المالك، لأن التيسير على أرباب الأموال مراعى‏.‏

باب زكاة الذهب والفضة

‏(‏وتجب في مضروبهما وتبرهما وحليهما وآنيتهما نوى التجارة أو لم ينو إذا كان ذلك نصابا‏)‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ الآية‏.‏ علق الوجوب باسم الذهب والفضة وأنه موجود في جميع ما ذكرنا، لأن المراد بالكنز عدم إخراج الزكاة لحديث جابر وابن عمر رضي الله تعالى عنهما‏:‏ «كل مال لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا، وما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا»‏.‏ وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت‏:‏ «كنت ألبس أوضاحا من الذهب فقلت‏:‏ يا رسول الله أكنز هي‏؟‏ فقال‏:‏ إن أديت زكاته فليس بكنز»‏.‏ فيصير تقدير الآية‏:‏ والذين لا يؤدون زكاة الذهب والفضة فبشرهم بعذاب أليم‏.‏ ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتين عليهما سواران من ذهب، فقال‏:‏ «أتحبان أن يسوركما الله بسوارين من نار»‏.‏ ‏؟‏ قالتا‏:‏ لا، قال‏:‏ «فأديا زكاتهما»‏.‏ ألحق الوعيد الشديد بترك أداء الزكاة وأنه دليل الوجوب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويضم أحدهما إلى الآخر‏)‏ لأنهما متحدان في معنى المالية والثمنية والزكاة تعلقت بهما باعتبار المالية والثمنية فيضم نظرا للفقراء، بخلاف السوائم لأن الزكاة تعلقت بها باعتبار العينوالصورة، وهي أجناس مختلفة؛ ثم عند أبي حنيفة يضم أحدهما إلى الآخر ‏(‏بالقيمة‏)‏ وعندهما بالأجزاء‏.‏ وصورته من له عشرة مثاقيل ذهب وإناء فضة أقل من مائة درهم قيمته عشرة مثاقيل تجب الزكاة عنده خلافا لهما، لأن المعتبر فيهما القدر لأنه المنصوص عليه‏.‏ وله أن الضم باعتبار المجانسة، والمجانسة بالقيمة فإذا تمت القيمة نصابا من أحدهما وجد السبب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ونصاب الذهب عشرون مثقالا وفيه نصف مثقال‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يا علي ليس عليك في الذهب شيء حتى يبلغ عشرين مثقالا، فإذا بلغ ففيها نصف مثقال» قال‏:‏ ‏(‏ثم في كل أربعة مثاقيل قيراطان‏.‏ ونصاب الفضة مائتا درهم، وفيها ‏(‏خمسة دراهم‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن حزم‏:‏ «ليس في الرقة صدقة حتى تبلغ مائتي درهم، فإذا بلغت مائتي ففيها خمسة دراهم» قال‏:‏ ‏(‏ثم في كل أربعين درهما درهم‏)‏ وهذا عند أبي حنيفة، وقالا‏:‏ ما زاد على النصاب منهما فالزكاة بحسابه، حتى يجب عندهما في الدرهم الزائد على المائتين جزء من أربعين جزءا من درهم، وكذالك القيراط الزائد على العشرين دينارا، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «في مائتي درهم خمسة دراهم، وما زاد فبحساب ذلك»‏.‏ رواه علي رضي الله عنه‏.‏ ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمرو بن حزم‏:‏ «وفي مائتي درهم خمسة دراهم، وفي كل أربعين درهما درهم»‏.‏ ولم يرد به الابتداء، فيكون المراد ما بعد المائتين، ولأنه نصاب له عفو في الابتداء، فكذا في الانتهاء كالسائمة، ولأنه يفضي إلى الحرج بحساب ربع عشر الذرة والحبة والدانق والدرهم وغير ذلك، والحرج مدفوع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتعتبر فيهما الغلبة، فإن كانت للغش فهي عروض، وإن كانت للفضة فهي فضة، وكذلك الذهب‏)‏ لأن ذلك لا ينطبع إلا بقليل الغش، فلا يخلو منه ويخلو عن كثيره، فجعلنا الفاصل الغلبة، وذلك بالزيادة على النصف، فيجب في الزيوف والنبهرجة لأن الغالب عليهما الفضة، ولا تجب في الستوقة لأن الغالب عليها الغش إلا أن يبلغ ما فيها من الفضة نصابا أو تكون للتجارة، وتبلغ قيمتها مائتي درهم، فتجب حينئذ وإن تساويا لا تجب، لأن الأصل عدم الوجوب، وقد وقع الشك في السبب وهو النصاب فلا تجب، بخلاف البيع على ما يأتي في الصرف، ونظرا للمالك كما في السوم، وسقي الأراضي سيحا ودالية على ما يأتي ‏(‏والمعتبر في الدراهم كل عشرة وزن سبعة مثاقيل‏)‏ والأصل في ذلك ما روي أن الدراهم كانت مختلفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ واعتبر عمر رضي الله عنه بعضها اثني عشر قيراطا، وبعضها عشرة قراريط، وبعضها عشرين قيراطا، وكان الناس يختلفون في معاملتهم، فشاور عمر الصحابة رضي الله عنهم، فقال بعضهم‏:‏ خذ من كل نوع، فأخذ من كل درهم ثلثه فبلغ أربعة عشر قيراطا فجعله درهما، فجاءت العشرة مائة وأربعين قيراطا، وذلك سبعة مثاقيل، لأن المثقال عشرون قيراطا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا زكاة في العروض إلا أن تكون للتجارة، وتبلغ قيمتها نصابا من أحد النقدين وتضم قيمتها إليهما‏)‏ لأن الزكاة إنما تجب في مال نام زائد على الحوائج الأصلية‏.‏ والنماء يكون إما بإعداد الله تعالى كالذهب والفضة، فإنه تعالى أعدهما للنماء حيث خلقهما ثمن الأشياء في الأصل، ولا يحتاج في التصرف فيهما والمعاملة بهما إلى التقويم والاستبدال، وتتعلق الزكاة بعينه كيف كان أو يكون معدا بإعداد العبد، وهو إما الإسامة أو نية التجارة، فيتحقق النماء ظاهرا أو غالبا، وليس في العروض نصاب مقدر لأنه لم يرد الشرع بذلك فيرجع إلى القيمة، وإذا قومت بأحد النقدين صار المعتبر القيمة فتضم إلى التقدير لما مر وتقوم بأي النقدين شاء، لأن الوجوب باعتبار المالية، والتقويم بعرف المالية والنقدان في ذلك سواء فيخير‏.‏ وعن أبي حنيفة‏:‏ يقومها بما هو أنفع للفقراء، وهو أن يبلغ نصابا نظرا لهم‏.‏ وعن محمد‏:‏ يغالب نقد البلد لأنه أسهل، والله أعلم‏.‏

باب زكاة الزروع والثمار

‏(‏ما سقته السماء أو سقي سيحا ففيه العشر قل أو كثر‏)‏ ويستوي فيه ما يبقى وما لا يبقى، وقالا‏:‏ لا يجب العشر إلا فيما يبقى إذا بلغ خمسة أوسق، والوسق‏:‏ ستون صاعا، فلا يجب في البقول والرياحين، لهما قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة»‏.‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ليس في الخضراوات عشر»‏.‏ ولأنه صدقة فيشترط له نصاب ليتحقق الغنى كسائر الصدقات، وله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏‏.‏ ولا واجب فيه إلا العشر أو نصفه، فيكون المراد العشر، ولم يفصل بين القليل والكثير، وما يبقى وما لا يبقى فيتناول الكل‏.‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما سقته السماء ففيه العشر»‏.‏ ولأن العشر مؤونة الأرض كالخراج، الخراج يجب بمطلق الخارج فكذا العشر، والحديث الأول محمول على الزكاة، فإن الصدقة عند الإطلاق تنصرف إليها، وكانوا يتعاملون بالأوساق، وكان قيمة الوسق أربعين درهما، فيكون قيمة الخمسة مائتي درهم، والمراد بالحديث الثاني صدقة تؤخذ‏:‏ أي يأخذها العاشر وهو مذهب أبي حنيفة، بل يدفعها المالك إلى الفقراء؛ وقولهما يشترط النصاب للغنى قلنا لا اعتبار بالمالك حتى يجب في أرض الوقف والصبي والمجنون فكيف يعتبر وصفه؛ وكذا لا يعتبر الحول لأنه لتحقق النماء وكله نماء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إلا القصب الفارسي والحطب والحشيش‏)‏ لأنها تنقى من الأرض، حتى لو اتخذ أرضه مقصبة أو مشجرة للحطب ففيه العشر، والقنب كالحشيش‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما سقي بالدولاب والدالية فنصف العشر‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما سقته السماء ففيه العشر، وما سقي بغرب أو دالية ففيه نصف العشر»‏.‏ ولأن المؤونة تكثر، وله أثر في التخفيف كالسائمة والعلوفة، وإن سقي سيحا وبدالية يعتبر أكثر السنة، فإن استويا يجب نصف العشر نظرا للمالك كالسائمة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا شيء في التبن والسعف‏)‏ لأنهما لا يقصدان، وكذلك بذر البطيخ والقثاء ونحوهما، لأن المقصود الثمرة دون البذر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا تحسب مؤونته والخرج عليه‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام أوجب فيه العشر فيتناول عشر الجميع، ولأنه عليه الصلاة والسلام خفف الواجب مرة باعتبار المؤونة من العشر إلى نصفه فلا يخفف ثانيا‏.‏ وقال أبو يوسف فيما لا يوسقكالزعفران والقطن يجب فيه العشر إذا بلغت قيمته خمسة أوسق من أدنى ما يدخل تحت الوسق كالذرة والدخن، لأنه لا نص فيهما، ولا سبيل إلى نصب النصاب بالرأي، فيعتبر قيمة المنصوص عليه كما في عروض التجارة، واعتبرنا بالأدنى نظرا للفقراء‏.‏ وقال محمد‏:‏ إذا بلغ الخارج خمسة أمثال أعلى ما يقدر به نوعه وجب العشر، ففي القطن خمسة أحمال، كل حمل ثلاثمائة منّ، ويروى ثلاثمائة وعشرون منّا، وفي الزعفران والسكر خمسة أمنان، كما اعتبر في المنصوص أعلى ما يقدر به وهو الوسق، فكان معنى جامعا فصح القياس‏.‏ ووقت الوجوب عند أبي حنيفة عند ظهور الثمرة، وعند أبي يوسف عند الإدراك، وعند محمد إذا حصل في الحظيرة؛ وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا استهلكه بعد الوجوب يضمن العشر وقبله لا، وعندهما في هذا وفي تكميل النصاب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وفي العسل العشر قل أو كثر إذا أخذ من أرض العشر‏)‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر‏.‏ وعن أبي يوسف‏:‏ العشر في العسل مجمع عليه ليس فيه اختلاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو يوسف‏:‏ إذا بلغ عشرة أرطال ففيه رطل‏.‏

وفي رواية كتاب الزكاة‏:‏ خمسة أوسق‏.‏ وفسره القدوري بقيمة خمسة أوسق لأنه لا يكال، فاعتبر القيمة على أصله؛ وعنه أيضا عشر قرب، كذا أخذ صلى الله عليه وسلم من بني سيارة‏.‏ وقال محمد‏:‏ خمس قرب؛ وفي رواية‏:‏ خمسة أفراق، لأنه أعلى ما يقدر به نوعه كما مر من أصله؛ والفرق ستة وثلاثون رطلا، ولا شيء فيما يؤخذ من أرض الخراج لئلا يجتمع العشر والخراج في أرض واحدة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والأرض العشرية إذا اشتراها ذمي صارت خراجية‏)‏ عند أبي حنيفة وزفر، وعند أبي يوسف والحسن‏:‏ عليه عشران‏.‏ وقال محمد‏:‏ عشر واحد لأنه وظيفة الأرض فلا تتغير بتغير المالك كالخراج‏.‏ ثم في رواية ابن سماعة‏:‏ يوضع موضع الخراج‏.‏

وفي رواية كتاب السير‏:‏ موضع الصدقات‏.‏ ولأبي يوسف أن ما يجب أخذه من المسلم يضاعف على الذمي كما إذا مر على العاشر، ويوضع موضع الخراج كالتغلبي‏.‏ ولأبي حنيفة أن الأراضي النامية لا تخلو من العشر أو الخراج، والذمي ليس أهلا للعشر لأنه عبادة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏ والخراج أليق به فيوضع عيه؛ وإن اشتراها تغلبي فعليه عشران بالإجماع، لأنهم صولحوا على أن يضاعف عليهم جميع ما على المسلمين، فإنهم قوم من النصارى كانوا قريبا من بلاد الروم، فأراد عمر أن يضع عليهم الجزية، فأبوا وقالوا‏:‏ إن وضعت علينا الجزية لحقنا بأعدائك من الروم، وإن أخذت منا ما يأخذ بعضكم من بعض وتضعه علينا فافعل، فشاور عمر الصحابة فأجمعوا على ذلك، وقال عمر‏:‏ هذه جزية فسموها ما شئتم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والخراجية لا تصير عشرية أصلا‏)‏ لأنها وظيفة الأرض، والكل أهل للخراج المسلم والذمي فلا حاجة إلى التغيير‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا شيء فيما يستخرج من البحر كاللؤلؤ والعنبر والمرجان‏)‏ لأنه لم يكن في يد الكفار ليكون غنيمة، ولهذا لواستخرج منه الذهب والفضة لا شيء فيهما‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ فيه الخمس، لأن عمر كان يأخذ الخمس من العنبر‏.‏ واللؤلؤ أشرف ما يوجد في البحر، فيعتبر بأشرف ما يوجد في البر وهو الذهب والفضة‏.‏ ثم قيل اللؤلؤ مطر الربيع يقع في الصدف فيصير لؤلؤا‏.‏ وقيل الصدف حيوان يخلف فيه اللؤلؤ‏.‏ وأما العنبر، قال محمد‏:‏ هو حشيش البحر يأكله السمك؛ وقيل شجرة تنكسر فيلقيها الموج في الساحل؛ وقيل خثى دابة في البحر وليس في الأشجار، والأخثاء شيء‏.‏ وسئل ابن عباس عن العنبر‏؟‏ فقال‏:‏ هو شيء دسره البحر ولا خمس فيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا فيما يوجد في الجبال كالجص والنورة والياقوت والفيروزج والزمرد‏)‏ لأنه من الأرض كالتراب والأحجار، والفصوص‏:‏ أحجار مضيئة‏.‏

باب العاشر

‏(‏وهو من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار مما يمرون عليه‏)‏ عند استجماع شرائط الوجوب، وتأمن التجار بمقامه من شر اللصوص ‏(‏فيأخذ من المسلم ربع العشر، ومن الذمي نصف العشر، ومن الحربي العشر‏)‏ فإن علمنا أنهم يأخذون منا أقل أو أكثر أخذنا منهم مثله‏.‏ والأصل فيه ما روي أن عمر لما نصب العشار قال لهم‏:‏ خذوا مما يمر به المسلم ربع العشر، ومما يمر به الذمي نصف العشر‏.‏ قالوا‏:‏ فمن الحربي‏؟‏ قال‏:‏ مثل ما يأخذون منا، فإن أعياكم فالعشر، وذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير وإن لم يأخذوا منا لم نأخذ منهم لأنا أحق بالمسامحة ومكارم الأخلاق، وإن أخذوا الكل أخذنا إلا قدر ما يوصله إلى مأمنه؛ وقيل لا يؤخذ لأنه غدر، وإن أخذوا من القليل أخذنا منهم كذلك‏.‏ وعلى رواية كتاب الزكاة لا يؤخذ، لأن القليل عفو ولا يحتاج إلى حماية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فمن أنكر تمام الحول أو الفراغ من الدين، أو قال‏:‏ أديت إلى عاشر آخر أو إلى الفقراء في المصر وحلف صدق‏)‏ معناه إذا كان عاشر آخر، أما إذا لم يكن لا يصدق لظهور كذبه، وكذا في السوائم إلا في دفعه إلى الفقراء، لأنها عبادة خالصة لله تعالى وهو أمين، والقول قول الأمين مع اليمين‏.‏ وعن أبي يوسف لا يحلف كما إذا قال‏:‏ صمت أو صليت‏.‏ قلنا‏:‏ الساعي هنا يكذبه ولا مكذب ثم، وكذا إذا قال هذا المال ليس لي أو ليس للتجارة وحلف صدق‏.‏ ويشترط إخراج البراءة في رواية الحسن لأنها علامة لصدق دعواه، قلنا الخط يشبه الخط فلم يكن علامة، وإنما اختلف حكم السائمة في الأداء إلى الفقراء، لأن ولاة الأخذ إلى الإمام فليس له أن يخرجها بنفسه، وسائر الأموال يخرجها بنفسه ‏(‏والمسلم والذمي سواء‏)‏ لأن الذمي من أهل دارنا، وهو كالمسلم في المعاملات وأحكامها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والحربي لا يصدق إلا في أمهات الأولاد‏)‏ لأنه يؤخذ منه للحماية، وجميع ما معه يحتاج إليها، ولأن الحول ليس بشرط في حقه حتى لا نمكنه من المقام في دارنا سنة؛ وأما الدين فلا مطالب له في دارنا، وقوله‏:‏ ليس للتجارة يكذبه الظاهر، لأن الظاهر إنما دخل دارنا بالمال للتجارة، وإنما يصدق في أمهات الأولاد والغلام يقول هو ولدي، لأنه إن كان صادقا، وإلا فقد ثبت للأمة حق الحرية وللولد حقيقتها، فتنعدم المالية في حقهما، ولو عشر الحربي ثم مر عليه مرة أخرى لم يعشره قبل الحول تحرزا عن الاستئصال إلا أن يرجع إلى دار الحرب ثم يخرج ولو خرج من يومه لأنه أمان جديد، وكذا إذا حال الحول لتجدد الأمان لما مر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويعشر قيمة الخمر دون الخنزير‏)‏ وقال زفر‏:‏ يعشرهما لاستوائهما في المالية عندهم‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ كذلك إن مر بهما جملة كأنه جعل الخنزير تبعا للخمر، وإن انفردا عشر الخمر دون الخنزير‏.‏ وجه الظاهر وهو الفرق أن الأخذ بسبب الحماية، والمسلم له أن يحمي خمره للتخليل فيحمي خمر غيره ولا كذلك الخنزير، ولأن الخنزير من ذوات القيم وحكم قيمته حكمه، والخمر مثلى فلا يكون حكم القيمة حكمها‏.‏ وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ ولو هم بيعها وخذوا العشر من أثمانها؛ ولم يرد مثله في الخنزير، والله أعلم‏.‏

باب المعدن

‏(‏مسلم أو ذمي وجد معدن ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص أو نحاس في أرض عشر أو خراج فخمسه فيء والباقي له‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «وفي الركاز الخمس»‏.‏ والركاز يتناول الكنز والمعدن، لأن الركاز عبارة عما يغيب في الأرض وأخفي فيها، وأنه موجود في الكنز والمعدن، ولأنها كانت في أيدي الكفار وقد غلبنا عليها فتكون غنيمة وفيها الخمس والواجد كالغانم فله أربعة الأخماس لعدم المزاحم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن وجده في داره فلا شيء فيه‏)‏ لأنه ملكها بجميع أجزائها، والمعدن من أجزائها ‏(‏وكذلك لو وجده في أرضه‏)‏ وذكر في الجامع الصغير‏:‏ يجب في الأرض دون الدار‏.‏ والفرق أن الدار ملكها بلا مؤونة أصلا والأرض يجب فيها العشر والخراج فلم تخل عن المؤن فيجب في المعدن أيضا‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ يجب في الدار والأرض لإطلاق الحديث، وجوابه ما قلنا وهو محمول على غير ملكه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن وجده حربي في دار الإسلام فهو فيء‏)‏ لأنه ليس من أهل الغنائم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن وجد كنزا فيه علامة المسلمين‏)‏ بأن كان فيه مصحف أو كان عليه مكتوبا كلمة الشهادة أو اسم ملك من ملوك الإسلام ‏(‏فهو لقطة‏)‏ لعلمنا أنه من وضع المسلمين فلا يكون غنيمة ‏(‏وإن كان فيه علامة الشرك‏)‏ كالصليب والصنم ونحوهما ‏(‏فهو من مال المشركين فيكون غنيمة ففيه الخمس والباقي للواجد‏)‏ وما لا علاقة فيه قيل هو لقطة لتقادم العهد، فالظاهر أنه لم يبق شيء مما دفنه الكفار، وقيل حكمه حكم أموال الجاهلية، لأن الكنوز غالبا من الكفرة، وهذا كله إذا وجده في فلاة غير مملوك ‏(‏وإن وجد في دار رجل مالا مدفونا من أموال الجاهلية فهو لمن كانت الدار له، وهو المختط الذي خطها الإمام له عند الفتح‏)‏ وقال أبو يوسف‏:‏ هو للواجد، وفيه الخمس قياسا على الموجود في المفازة لأنه هو الذي أظهره وحازه ولم يملكه الإمام، لأنه لو ملكه الكنز مع الأرض لم يكن عدلا‏.‏ ولهما أن المختط له ملك الأرض بالحيازة، فيملك ظاهرها وباطنها، والمشتري ملكها بالعقد، فيملك الظاهر دون الباطن، فبقي الكنز على صاحب الخطة؛ وأما قوله‏:‏ لو ملكه لم يكن عدلا‏.‏ قلنا‏:‏ هو مأمور بالعدل بحسب الطاقة، وما وراء ذلك غير داخل في وسعه، وإن لم يوجد المختط فلورثته ورثة ورثته هكذا ‏(‏فإن لم يعرف المختط فلأقصى مالك يعرف لها‏)‏‏.‏

باب مصارف الزكاة

وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ الآية، إلا المؤلفة قلوبهم، فإن الله تعالى أعز الإسلام وأغنى عنهم، ومنعهم عمر رضي الله عنه في زمن أبي بكر رضي الله عنه وقال‏:‏ لا نعطى الدنية في ديننا، ذلك شيء كان يعطيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم تألفا لكم، أما اليوم فقد أعز الله الدين، فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف، ووافقه على ذلك أبو بكر والصحابة فكان إجماعا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهم الفقير وهو الذي له أدنى شيء، والمسكين الذي لا شيء له‏)‏ وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة‏:‏ الفقير‏:‏ الذي لا يسأل، والمسكين‏:‏ الذي يسأل‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة عكس ذلك، لأن الفقير بالمسألة يظهر افتقاره وحاجته، والمسكين به زمانة لا يسأل، فالحاصل أن المسكين أسوأ حالا من الفقير، وفائدة الخلاف تظهر في الأوقاف عليهم والوصايا لهم دون الزكاة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والعامل على الصدقة يعطى بقدر عمله‏)‏ ما يسعه وأعوانه زاد على الثمن أو نقص، لأنه فرغ نفسه للعمل للفقراء، فيكون كفايته في مالهم كالمقاتلة والقاضي، وليس ذلك بالإجارة لأنه عمل غير معلوم، ويحل للغني دون الهاشمي لما فيها من شبهة الوسخ، والهاشمي أولى بالكرامة والتنزه عن الوسخ فلا يقاس عليه الغني، ولو هلكت الزكاة في يد العامل سقط أجره لأن حقه فيما أخذوأجزأت من أخذ منه لأنه نائب عن الإمام والفقراء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومنقطع الغزاة والحاج‏)‏ وهم المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وفي سبيل الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ وقال أبو يوسف‏:‏ هم فقراء الغزاة لا غير، لأنه المفهوم عند إطلاق هذا اللفظ‏.‏ ولمحمد‏:‏ أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمل عليه الحاج، ولأنه في سبيل الله تعالى لما فيه من امتثال أوامره وطاعته ومجاهدة النفس التي هي عدو لله تعالى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمكاتب يعان في فك رقبته‏)‏ وهو بقوله‏:‏ ‏{‏وفي الرقاب‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ هكذا ذكره المفسرون، قالوا‏:‏ لا يجوز دفعها إلى مكاتب هاشمي، لأن الملك يقع للمولى‏.‏ وذكر أبو الليث‏:‏ لا يدفع إلى مكاتب غني، وإطلاق النص يقتضي الكل وهو الصحيح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمديون الفقير‏)‏ وهو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والغارمين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ وإطلاق الآية يقتضي جواز الصرف إلى مطلق المديون إلا أنه قام الدليل، وهو قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تحل الصدقة لغني»‏.‏ على أنه لا يجوز صرفها إلى من يملك نصابا فاضلا عما عليه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمنقطع عن ماله‏)‏ وهو ابن السبيل لأنه لا يتوصل إلى الانتفاع بماله فكان كالفقير، فهو فقير حيث حيث هو غني حيث ماله، وإن كانت زوجته عنده فلها نفقة الفقراء، وإن كانت حيث ماله فلها نفقة الأغنياء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وللمالك أن يعطي جميعهم‏)‏ ولا خلاف فيه ‏(‏وله أن يقتصر على أحدهم‏)‏ لأن الزكاة حق الله تعالى وهو الآخذ لها‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويأخذ الصدقات‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 104‏]‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل»‏.‏الحديث، وإضافته إليهم بحرف اللام لبيان أنهم مصارف لا لبيان أنهم المستحقون لها، وبعلة الفقر والحاجة صاروا مصارف، والمقصود هو إغناء الفقير وسد خلة المحتاج‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم»‏.‏ولهذا لا يجوز الصرف إلى الأغنياء من هذه الأصناف فعلم أن المراد دفع الحاجة، وهو معنى يعم الكل، وذلك حاصل بالدفع إلى البعض، بخلاف العامل لأنه لا يأخذه صدقة بل عوضا عن عمله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يدفعها إلى ذمي‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أمرت أن آخذها من أغنيائكم وأردها على فقرائكم»‏.‏ ويدفع إليه غيرها من الصدقات كالنذور والكفارات وصدقة الفطر‏.‏

وقال أبو يوسف‏:‏ لا يجوز كالزكاة‏.‏ ولنا أن المذكور مطلق الفقراء إلا أنه خص في الزكاة بالحديث فبقي ما رواءه على الأصل، ولا يجوز دفع شيء من ذلك إلى الحربي، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 9‏]‏ الآية، ولا يجوز دفع شيء من العشر إلى الذمي أيضا كالزكاة وعليه الإجماع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا إلى غني‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تحل الصدقة لغني» قال‏:‏ ‏(‏ولا إلى ولد غني صغير‏)‏ لأنه يعد غنيا بغنى أبيه عرفا حتى لا تجب نفقته إلا على الأب، بخلاف الكبير فإنه لا يعد غنيا بغنى أبيه حتى تجب نفقته على ابنه لا على أبيه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا مملوك غني‏)‏ لأن الملك يقع لمولاه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا إلى من بينهما قرابة ولاد أعلى أو أسفل‏)‏ كالأب والجد والأم والجدة من الجانبين، والولد وولد الولد وإن سفل، وهذا بالإجماع، لأن الجزئية ثابتة بينهما من الجانبين حتى لا تجوز شهادة أحدهما للآخر، ولا يقع بسرقة ماله، فلا يتم الإيتاء المشروط في الزكاة إلا بانقطاع منفعة المؤتي عما أتى والمنافع بينهم متصلة ‏(‏ولا إلى زوجته‏)‏ لأن المنافع بينهم متصلة، ويعد غنيا بمال زوجته‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ووجدك عائلا فأغنى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 8‏]‏ قالوا‏:‏ بمال خديجة رضي الله عنها؛ وكذلك الزوجة لا تدفع إلى زوجها لأنها تعد غنية باعتبار ما لها عليه من النفقة والكسوة، ولأنهما أصل الولاد، وما يتفرع من هذا الأصل يمنع صرف الزكاة فكذا الأصل، ولهذا يرث كل واحد منهما من الآخر من غير حجب كقرابة الولاد‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ تدفع إلى زوجها، لقوله عليه الصلاة والسلام لزينب امرأة ابن مسعود وقد سألته عن التصدق على زوجها»‏.‏لك أجران‏:‏ أجر الصدقة وأجر الصلة» قلنا‏:‏ هو محمول على صدقة التطوع لما بينا من اتصال المنافع بينهما وذلك جائز عنده‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا إلى مكاتبه‏)‏ لأنه ملكه من وجه فلم يتحقق الإيتاء المشروط‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا إلى هاشمي‏)‏ لقوله صلى الله عليه «يا بني هاشم إن الله حرم عليكم أوساخ الناس وعوضكم عنها بخمس الخمس»‏.‏وهم‏:‏ آل عباس، وآل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل الحارث بن عبد المطلب، لأنهم ينتسبون إلى هاشم بن عبد مناف، ولأن هؤلاء هم المستحقون لخمس الخمس، وهو سهم ذوي القربى دون غيرهم من الأقارب، فالله تعالى حرم الصدقة على فقرائهم وعوضهم بخمس الخمس، فيختص تحريم الصدقة بهم، ويبقى من سواهم من الأقارب كالأجانب فتحل لهم الصدقة، وكذلك الحكم فيما سوى الزكاة من الصدقات الواجبات كصدقة الفطر والكفارات والعشور والنذور وغير ذلك، لأنها في معنى الزكاة، فإنه يطهر نفسه بأداء الواجب وإسقاط الفرض، فيتدنس المؤدي كالماء المستعمل، بخلاف صدقة التطوع حيث تحل للهاشمي لأنها لا تدنس كالوضوء للتبرد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا إلى مولى هاشمي‏)‏ لقوله صلى الله عليه وسلم لمولاه أبي رافع وقد سأله عن ذلك‏:‏ «إن الصدقة محرمة على محمد وعلى آل محمد، وإن مولى القوم منهم» وذكر بعض أصحابنا‏:‏ يجوز للهاشمي أن يدفع زكاة ماله إلى الهاشمي عند أبي حنيفة، خلافا لأبي يوسف؛ ووجهه أن المراد بقوله أوساخ الناس غيرهم هو المفهوم من مثله، فيقتضي حرمة زكاة غيرهم عليهم لا غير‏.‏ وذكر في المنتقى عن أبي عصمة عن أبي حنيفة أن الصدقة تحل لبني هاشم، وفقيرهم فيها كفقير غيرهم، ووجهه أن عوضها وهو خمس الخمس لم يصل إليهم لإهمال الناس أمر الغنائم وقسمتها وإيصالها إلى مستحقها، وإذا لم يصل إليهم العوض عادوا إلى المعوض عملا بمطلق الآية سالما عن معارضة أخذ العوض، وكما في سائر المعاوضات، ولأنه إذا لم يصل إليهم واحد منهما هلكوا جوعا؛ فيجوز لهم ذلك دفعا للضرر عنهم‏.‏ واعلم أن التمليك شرط‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏ والإيتاء‏:‏ الإعطاء؛ والإعطاء‏:‏ التمليك، فلا بد فيها من قبض الفقير أو نائبه كالوصي والأب ومن يكون الصغير في عياله قريبا كان أو أجنبيا، وكذلك الملتقط للقيط، لأن التمليك لا يتم بدون القبض ولا يبني بها مسجد ولا سقاية ولا قنطرة ولا رباط، ولا يكفن بها ميت، ولا يقضي بها دين ميت، ولا يشتري بها رقبة تعتق لعدم التمليك؛ ولو قضى بها دين فقير جاز، ويكون القابض كالوكيل عن الفقير‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن أعطى فقيرا واحدا نصابا أو أكثر جاز ويكره‏)‏ وقال زفر‏:‏ لا يجوز لمقارنة الأداء الغني فيمنع وقوعه زكاة‏.‏ ولنا أن الغني يتعقب الأداء لحصوله بالقبض والقبض بعد الأداء، إلا أنه قريب منه فيكره كمن صلى قريبا من النجاسة‏.‏ ومن المشايخ من قال‏:‏ إن كان عليه دين لو قضاه بقي معه أقل من نصاب، أو كان له عيال لو فرق عليهم أصاب كل واحد دون النصاب لا يكره لأنه أعطاه سهما من ذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز دفعها إلى من يملك دون النصاب وإن كان صحيحا مكتسبا‏)‏ لأنه فقير‏.‏ واعلم أن الغني على مراتب ثلاثة‏:‏ غني يحرم عليه السؤال ويحل له أخذ الزكاة، وهو أن يملك قوت يومه وستر عورته؛ وكذلك الحكم فيمن كان صحيحا مكتسبا، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من سأل عن ظهر غنى فإنه يستكثر من جمر جهنم»‏.‏ ، قيل يا رسول الله وما ظهر غنى‏؟‏ قال‏:‏ «أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم ويعشيهم»‏.‏وغني يحرم عليه السؤال والأخذ ويوجب عليه صدقة الفطر والأضحية، وهو أن يملك ما قيمته نصاب فاضلا عن الحوائج الأصلية من غير أموال الزكاة كالثياب والأثاث والعقار والبغال والحمير ونحوه‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تحل الصدقة لغني»‏.‏قيل‏:‏ ومن الغني‏؟‏ قال‏:‏ «من له مائتا درهم»‏.‏وغني يحرم عليه السؤال والأخذ، ويوجب عليه صدقة الفطر والأضحية، ويوجب عليه أداء الزكاة، وهو ملك نصاب كامل نام على ما بيناه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو دفعها إلى من ظنه فقيرا فكان غنيا أو هاشميا‏)‏ أو حربيا أو ذميا ‏(‏أو دفعها في ظلمة فظهر أنه أبوه أو ابنه أجزأه‏)‏ وقال أبو يوسف‏:‏ لا يجزيه لأنه تبين خطؤه بيقين، فصار كالماء إذا ظهر أنه نجس بعد استعماله‏.‏ ولنا أنه أتى بما وجب عليه، لأن الواجب عليه الدفع إلى من هو فقير في اجتهاده لأنه لا يمكن الوقوف على الحقيقة، فقد يكون في يد الإنسان مال لغيره أو مغصوب أو عليه دين، فإذا أعطاه بعد الاجتهاد أجزأه كما إذا أخطأ القبلة بعد الاجتهاد، ولحديث معاذ بن يزيد قال‏:‏ دفع أبي صدقته إلى رجل ليفرقها على المساكين فأعطاني، فلما علم أبي أراد أخذه مني فلم أعطه، فاختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «يا معن لك ما أخذت ويا يزيد لك ما نويت» قال‏:‏ ‏(‏وإن كان عبده أو مكاتبه لم يجزه‏)‏ لأنه لم يخرج عن ملكه خروجا صحيحا، وهذا بالإجماع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويكره نقلها إلى بلد آخر‏)‏ لما تقدم من حديث معاذ، ولأن لفقراء بلده حكم القرب والجوار، وقد اطلعوا على أموالهم وتعلقت بهم أطماعهم، فكان الصرف إليهم أولى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إلا إلى قرابته‏)‏ لما فيه من صلة الرحم مع سقوط الفرض ‏(‏أو من هو أحوج من أهل بلده‏)‏ لحديث معاذ، فإنه كان ينقل الصدقة من اليمن إلى المدينة، لأن فقراء المدينة أحوج وأشرف، ولو نقل إلى غيرهم جاز لإطلاق النصوص‏.‏

باب صدقة الفطر

‏(‏وهي واجبة على الحر المسلم المالك لمقدار النصاب فاضلا عن حوائجه الأصلية‏)‏ كما بيناه، وشرط الحرية لأن العبد غير مخاطب بها لعدم ملكه، والإسلام لأنها عبادة‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام فيها‏:‏ «إنها طهره للصائم من الرفث»‏.‏ وإنه مختص بالمسلم والغني لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا صدقة إلا عن ظهر غنى»‏.‏ وفي رواية «إنما الصدقة عن ظهر غنى»‏.‏والأصل في وجوبها ما روي عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير» وعن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الذكر والأنثى والحر والعبد صاعا من تمر أو صاعا من شعير» وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أدوا صدقة الفطر عن كل حر وعبد يهودي أو نصراني» قال‏:‏ ‏(‏عن نفسه وأولاده الصغار وعبيده للخدمة ومدبره وأم ولده وإن كانوا كفارا لا غير‏)‏ والأصل في ذلك أن سبب وجوبها رأس يمونه ويلي عليه، لأنه يصير بمنزلة رأسه في الذب والنصرة‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أدوا عمن تمونون»‏.‏ فيلزمه عن أولاده الصغار ومماليكه المسلمين والكفار والمدبر وأم الولد بمنزلة العبد، ولا تجب عن أبويه وأولاده الكبار وزوجته ومكاتبه لعدم الولاية، ولو كان أبوه مجنونا فقيرا يجب عليه صدقة فطره لوجود المؤونة والولاية، ولا تجب عن حفدته مع وجود أبيهم، فإن عدم فعليه صدقتهم وقيل لا يجب أصلا‏.‏ وعن أبي يوسف‏:‏ لو أخرج عن زوجته وأولاده الكبار وهم في عياله بغير أمرهم أجزأهم، لأنه مأذون فيه عادة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهي نصف صاع من بر أو دقيقه، أو صاع من شعير أو دقيقه، أو تمر أو زبيب‏)‏ أما البر والشعير والتمر فلما روينا، وأما الدقيق فلأنه مثل الحب بل أجود، وكذا سويقهما؛ وأما الزبيب فقد روي في حديث أبي سعيد الخدري»‏.‏ أو صاعا من زبيب»‏.‏وعن أبي حنيفة في الزبيب نصف صاع، لأنه لا يؤكل بعجمه فأشبه الحنطة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏أو قيمة ذلك‏)‏ وقد مر في الزكاة‏.‏ قال أبو يوسف‏:‏ الدقيق أحب إليّ من الحنطة، والدراهم أحب إليّ من الدقيق لأنه أيسر على الغني وأنفع للفقير، والأحوط الحنطة ليخرج عن الخلاف؛ ولا يجوز الخبز والأقط إلا باعتبار القيمة لعدم ورود النص بهما‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والصاع ثمانية أرطال بالعراقي‏)‏ وقال أبو يوسف‏:‏ خمسة أرطال وثلث رطل وهو صاع أهل المدينة، نقلوا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفا عن سلف‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «صاعنا أصغر الصيعان» ولنا ما روى الدارقطني في سننه عن أنس قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال»‏.‏ وعمر رضي الله عنه قدر الصاع لإخراج الكفارة بثمانية أرطال بحضرة الصحابة، وأنه أصغر من الهاشمي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتجب بطلوع الفجر من يوم الفطر‏)‏ لأنه يقال صدقة الفطر، والفطر إنما يتجدد باليوم دون الليل ‏(‏فإن قدمها جاز‏)‏ لأنه أداها بعد السبب وهو رأس يمونه ويلي عليه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لا يجوز‏.‏ وروى نوح بن أبي مريم أنه يجوز إذا مضى نصف رمضان‏.‏ وعن خلف بن أيوب‏:‏ يجوز في رمضان ولا يجوز قبله ‏(‏وإن أخرها فعليه إخراجها‏)‏ لأنها قربة مالية معقولة المعنى فلا تسقط بالتأخير كالزكاة بخلاف الأضحية، فإن الإراقة غير معقولة المعنى ‏(‏وإن كان للصغير مال أدى عنه وليه وعن عبده‏)‏ لأنها مؤونة كالجناية ونفقة الزوجة‏.‏ وقال محمد‏:‏ لا تجب في ماله كالزكاة، والمجنون كالصبي ‏(‏ويستحب إخراجها يوم الفطر قبل الخروج إلى المصلى‏)‏ وقد بيناه في العيدين، والله أعلم‏.‏

كتاب الصوم

الصوم في اللغة‏:‏ مطلق الإمساك، يقال‏:‏ صامت الشمس‏:‏ إذا وقفت في كبد السماء وأمسكت عن السير ساعة الزوال‏.‏ وقال النابغة‏:‏ خيل صيام وخيل غير صائمة أي ممسكات عن العلف وغير ممسكات‏.‏ وفي الشرع‏:‏ عبارة عن إمساكمخصوص، وهو الإمساك عن المفطرات الثلاث بصفة مخصوصة، وهو قصد التقرب من شخص مخصوص وهو المسلم بصفة مخصوصة وهي الطهارة عن الحيض والنفاس في زمان مخصوص، وهو بياض النهار من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وهو فريضة محكمة يكفر جاحدها ويفسق تاركها‏.‏ ثبتت فرضيته بالكتاب وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم الصيام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏‏.‏ وبالسنة وهو ما مر من الحديث في كتاب الصلاة، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «صوموا شهركم»‏.‏ وعليه إجماع الأمة، وسبب وجوبه الشهر لإضافته إليه يقال صوم رمضان، ولتكرره بتكرار الشهر وكل يوم سبب وجوب صومه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏صوم رمضان فريضة على كل مسلم عاقل بالغ أداء وقضاء‏)‏ أما الفرضية فلما ذكرنا‏.‏ وأما الإسلام فلأن الكافر ليس أهلا للعبادة‏.‏ والعقل والبلوغ لأن الصبي والمجنون غير مخاطبين‏.‏ وأما أداء فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏‏.‏ وأما قضاء فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏ أي فليصم عدة من أيام أخر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وصوم النذر والكفارات واجب‏)‏ أما النذر فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليوفوا نذورهم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏29‏]‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ف بنذرك»‏.‏

وأما الكفارات فلما يأتي فيها إن شاء الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما سواه نفل‏)‏ لأن النفل في اللغة مطلق الزيادة؛ وفي الشرع‏:‏ الزيادة على الفرائض والواجبات‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وصوم العيدين وأيام التشريق حرام‏)‏ لرواية عقبة بن عامر قال‏:‏ «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم النحر وأيام التشريق»‏.‏وقال عليه الصلاة والسلام في أيام منى‏:‏ «إنها أيام أكل وشرب وبعال»‏.‏ويوم الفطر مأمور بإفطاره، وفي صومه مخالفة الأمر ومخالفة الاسم، وعلى ذلك الإجماع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وصوم رمضان والنذر المعين يجوز بنية من الليل وإلى نصف النهار وبمطلق النية وبنية النفل‏)‏‏.‏ اعلم أن النية شرط في الصوم، وهو أن يعلم بقلبه أنه يصوم، ولا يخلو مسلم عن هذا في ليالي شهر رمضان، وليست النية باللسان شرطا، ولا خلاف في أول وقتها، وهو غروب الشمس‏.‏ واختلفوا في آخره على ما نبينه إن شاء الله تعالى‏.‏ وقال زفر‏:‏ النية في صوم رمضان ليست بشرط للصحيح المقيم، لأن الزمان متعين لعدم الفرض في حقه حتى لا يجوز غيره، فمتى حصل فيه إمساك وقع عن فرض رمضان لصوم مزاحمة غيره، فصار كإعطاء النصاب جميعه للفقير بعد الحول‏.‏ ولنا أنه عبادة فلا يجوز إلا بالنية كسائر العبادات، ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الأعمال بالنيات»‏.‏ ولما مر في الصلاة، ولأن الإمساك قد يكون للعادة أو لعدم الاشتهاء أو للمرض أو للرياضة ويكون للعبادة فلا يتعين لها إلا بالنية كالقيام إلى الصلاة وأداء لخمس إلى الفقير، بخلاف تعيين النية فإنه لا يشترط، لأن الصوم المشروع فيه لا يتنوع‏.‏ وقوله‏:‏ الزمان متعين لصوم الفرض‏.‏ قلنا نعم، لكن إذا حصل الصوم فلم قلتم إنه حصل غاية الأمر أنه حصل الإمساك وقد خرج جوابه‏.‏ وأما هبةالنصاب قلنا وجد منه معنى النية، وهو القربة لحصول الثواب به، ولهذا لا يجوز الرجوع في الموهوب للفقير لحصول الثواب به، أما هنا حصل مطلق الإمساك ولا ثواب فيه، ولهذا لا يكون وما خارج رمضان‏.‏ وروى القدوري عن الكرخي أنه أنكر هذا القول عن زفر وقال‏:‏ إنما مذهبه أنه يكفيه نية واحدة كقول مالك، ووجهه أنه صوم الشهر عبادة واحدة، لأن السبب واحد وهو شهود جزء من الشهر فصار كركعات الصلاة‏.‏ وجوابه أن النية شرط لكل يوم، لأن صوم كل يوم عبادة على حدة، ألا ترى أنه لو فسد صوم يوم لا يمنع صحة الباقي، وكذا عدم الأهلية في بعضه لا يمنع تقرر الأهلية في الباقي فتجب النية لكل عبادة، ولأنه يخرج عن صوم اليوم بمجيء الليلة‏.‏

قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغابت الشمس فقد أفطر الصائم»‏.‏ وإذا خرج يحتاج إلى الدخول في اليوم الثاني فيحتاج إلى النية كأول الشهر‏.‏ وأما جواز الصوم بالنية إلى نصف النهار لما روى ابن عباس أن الناس أصبحوا يوم الشك، فقدم أعرابي وشهد برؤية الهلال، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله»‏.‏ ‏؟‏ فقال‏:‏ نعم، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الله أكبر يكفي المسلمين أحدهم، فصام وأمر بالصيام، وأمر مناديا فنادى‏:‏ ألا من أكل فلا يأكل بقية يومه، ومن لم يأكل فليصم» أمر بالصوم وأنه يقتضي القدرة على الصوم الشرعي، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الأحكام الشرعية وآمرا بها، ولو شرطت النية من الليلة لما كان قادرا عليه، فدل على عدم اشتراطها ولأنه لو أراد الإمساك لما فرق بين الفريقين نفيا للالتباس‏.‏ وما يروى من الأحاديث في نفي الصوم إلابالتبييت محمولة على نفي الفضيلة توفيقا بينها وبين ما روينا، ولأن النية ليست بشرط حالة الشروع حتى لو نوى من الليل جاز، وإنما جاز دفعا للحرج لأن أول وقته طلوع الفجر الثاني، وهو مشتبه لا يعرفه أكثر الناس ولا يقفون على أول طلوعه، وهو أيضا وقت نوم وغفلة؛ والمتهجد يستحب له نوم آخر الليل، وإنما جاز تقديم النية دفعا لهذا الحرج، وأنه موجود ههنا، لأن من الناس من يبلغ آخر الليل وينقطع الحيض والنفاس عند آخر الليل وينام حتى يصبح، وكذا يوم الشك لا يقدر على التبييت، فقلنا بالجواز بعد الفجر دفعا للحرج أيضا‏.‏ بخلاف القضاء والكفارات والنذر المطلق، لأن الزمان غير متعين لها فوجب التبييت نفيا للمزاحمة، ويعتبر نصف النهار من طلوع الفجر الثاني، فيكون إلى الضحوة الكبرى، فينوي قبلها ليكون الأكثر منويا فيكون له حكم الكل حتى لو نوى بعد ذلك لا يجوز لخلو الأكثر عن النية تغليبا للأكثر‏.‏ وأما جوازه بمطلق النية وبنية النفل، لما روي عن علي وعائشة رضي الله عنهما أنهما كانا يصومان يوم الشك ويقولان‏:‏ لأن نصوم يوما من شعبان أحب إلينا من أن نفطر يوما من رمضان، وكان صومهما بنية النفل، لأنه لا يجوز بنية الفرض، فلولا وقوعه عن رمضان لو ظهر اليوم من رمضان لما كان لاحترازهما فائدة، ولأن الزمان متعين لصوم الفرض حتى لا يقع فيه غيره بالإجماع، فمتى حصل أصل النية كفى لوقوع الإمساك قربة، فيقع عن رمضان لعدم المزاحمة، والأفضل الصوم بنية معينة مبيتة للخروج عن الخلاف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والنفل يجوز بنية من النهار‏)‏ لحديث عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح دخل على نسائه وقال‏:‏ «هل عندكن شيء‏؟‏»‏.‏فإن قلن‏:‏ لا، قال‏:‏ «إني إذا لصائم» قال‏:‏ ‏(‏ويجوز صوم رمضان بنية واجب آخر‏)‏ لما مر في مطلق النية ونية النفل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وباقي الصوم لا يجوز إلا بنية معينة من الليل‏)‏ لأن الوقت يصلح له ولغيره، فيحتاج إلى التعيين والتبييت قطعا للمزاحمة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمريض والمسافر في رمضان إن نوى واجبا آخر وقع عنه، وإلا وقع عن رمضان‏)‏ وقالا‏:‏ يقع عن رمضان فيهما، لأن الرخصة لاحتمال تضرره وعجزه، فإذا صام انتفى فصار كالصحيح المقيم‏.‏ وله أن الشارع رخص له ليصرفه إلى ما هو الأهم عنده من الصوم أو الفطر، فصار كشعبان في حق غيره، فلما نوى واجبا آخر علمنا أنه الأهم عنده فيقع عنه، وقيل‏:‏ الأصح عند أبي حنيفة أن المريض إذا نوى واجبا آخر يقع عن رمضان، لأن إباحة الفطر للعجز، فإذا قدر فهو كالصحيح، بخلاف المسافر، والأول رواية الكرخي‏.‏ وعن أبي حنيفة في النفل روايتان، فمن قال يقع عن رمضان فلأنه لم يصرفه في الأهم، لأن الخروج عن العهدة أهم من النفل، بخلاف واجب آخر فإن كل واحد منهما خروج عن العهدة‏.‏ ومن قال يقع نفلا فلأنه كان مخيرا فله أن يصرفه إلى ما شاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ووقت الصوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلو واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ الخيط الأبيض‏:‏ الصبح الصادق، أباح الأكل والشرب إلى طلوع الفجر فيحرم عنده‏.‏ وأما آخره فلقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا أفطر الصائم أكل أو لم يؤكل» قال‏:‏ ‏(‏وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع مع النية بشرط الطهارة عن الحيض والنفاس‏)‏ لما تقدم أن الصوم هو الإمساك لغة، زدنا عليه النية ليقع قربة على ما قدمناه، والطهارة من الحيض والنفاس ليتحقق الأداء في حق المرأة، وتمامه ما مر في الحيض‏.‏ والنية‏:‏ أن يعلم بقلبه أنه يصوم وقد مر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجب أن يلتمس الناس الهلال في التاسع والعشرين من شعبان وقت الغروب‏)‏ وهو المأثور عنه عليه الصلاة والسلام وعن السلف ‏(‏فإن رأوه صاموا، وإن غمّ عليهم أكملوه ثلاثين يوما‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فعدوا شعبان ثلاثين يوما»‏.‏ولأن الشهر كان ثابتا فلا يزول إلا بدليل وهو الرؤية أو إكمال العدة، وهكذا الحكم في كل شهر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن كان بالسماء علة غيم أو غبار أو نحوهما مما يمنع الرؤية قبل شهادة الواحد العدل، والحر والعبد والمرأة في ذلك سواء‏)‏ أما الواحد فلما تقدم من حديث الأعرابي، ولأنه أمر ديني فيقبل قول الواحد كرواية الأخبار، والإخبار عن نجاسة الماء وطهارته ولا يشترط فيه لفظ الشهادة‏.‏ وأما العدالة فلأنه من أخبار الديانات، فتشترط العدالة كسائر الأمور الدينية، وتقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب، لأن الصحابة قبلوا شهادة أبي بكرة، وفي مستور الحال خلاف بين الأصحاب؛ ويفترض على من رأى الهلال أن يؤدي الشهادة إذا لم يثبت دونه حتى يجب على المخدرة وإن لم يأذن لها زوجها‏.‏ فإن أكملوا ثلاثين ولم يروا الهلال قال محمد‏:‏ يفطرون بناء على ثبوت الرمضانية بشهادة الواحد، وإن كان الفطر لا يثبت به ابتداء كالإرث بناء على ثبوت النسب بقول القابلة‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة أنهم لا يفطرون أخذا بالاحتياط‏.‏ وقال محمد رحمه الله‏:‏ لا أتهم مسلما بتعجيل صوم يوم ‏(‏فإن رد القاضي شهادته صام‏)‏ لأنه رآه، فإن أفطر قضى لوجوب الأداء ولا كفارة عليه لمكان الشبهة، ولا يفطر آخر الشهر إلا مع الناس احتياطا، ولو أفطر لا كفارة عليه عملا باعتقاده‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن لم يكن بالسماء علة لم تقبل إلا شهادة جمع يقع العلم بخبرهم‏)‏ وهو مفوض إلى رأي الإمام من غير تقدير هو الصحيح، وهذا لأن المطالع متحدة والموانع مرتفعة والأبصار صحيحة والهمم في الرؤية متقاربة، فلا يجوز أن يختص بالرؤية البعض القليل‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يكتفي بشهادة الاثنين كما في سائر الحقوق، ولو جاء رجل من خارج المصر وشهد به تقبل، وكذا إذا كان على مكان مرتفع من البلد كالمنارة ونحوها، لأن الرؤية تختلف باختلاف صفاء الهواء وكدورته، وباختلاف ارتفاع المكان وهبوطه، ولما تقدم من حديث الأعرابي‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا ثبت في بلد لزم جميع الناس ولا اعتبار باختلاف المطالع‏)‏ هكذا ذكره قاضيخان‏.‏

قال‏:‏ وهو ظاهر الرواية، ونقله عن شمس الأئمة السرخسي؛ وقيل يختلف باختلاف المطالع‏.‏ وذكر في الفتاوى الحسامية‏:‏ إذا صام أهل مصر ثلاثين يوما برؤية، وأهل مصر آخر تسعة وعشرين يوما برؤية فعليهم قضاء يوم، إن كان بين المصرين قرب بحيث تتحد المطالع، وإن كانت بعيدة بحيث تختلف لا يلزم أحد المصرين حكم الآخر‏.‏ وذكر في المنتقى عن أبي يوسف‏:‏ يجب عليهم قضاء يوم من غير تفصيل‏.‏ وعن ابن عباس في مثله‏:‏ لهم مالهم ولنا مالنا‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها‏:‏ فطر كل بلدة يوم يفطر جماعتهم وأضحى كل بلدة يوم يضحي جماعتهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يصام يوم الشك إلا تطوعا‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يصام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان إلا تطوعا»‏.‏ وهو الذي يشك فيه أنه من رمضان أو شعبان، وذلك بأن يتحدث الناس بالرؤية ولا تثبت‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويلتمس هلال شوال في التاسع والعشرين من رمضان، فمن رآه وحده لا يفطر‏)‏ أخذا بالاحتياط في العبادة ‏(‏فإن أفطر قضاه ولا كفارة عليه‏)‏ لما بينا ‏(‏فإن كان بالسماء علة قبل شهادة رجلين أو رجل وامرأتين‏)‏ لأنها شهادة تعلق بها حق الآدمي فصارت كالشهادة على حقوق الآدميين بخلاف رمضان، لأنه أمر ديني لا يتعلق به حق الآدمي، على أن مبنى الكل على الاحتياط وهو فيما قلناه ‏(‏وإن لم يكن بها علة فجمع كثير‏)‏ لما بينا‏.‏ وعن أبي حنيفة شهادة رجلين كما في سائر الحقوق ‏(‏وذو الحجة كشوال‏)‏ لما يتعلق به من حقوق الآدمي من الأضاحي وغيره، وإذا رأى هلال رمضان أو شوال نهارا قبل الزوال أو بعده فهو لليلة الآتية‏.‏ وقال أبو يوسف كذلك إن كان بعد الزوال، وإن كان قبله فللماضية، يروى ذلك عن عمر وعائشة رضي الله عنهما، والأول يروى عن علي وابن مسعود وابن عمر وأنس وعن عمر أيضا، ولأن الشهر ثابت بيقين، وبعض الأهلة يكون أكبر من بعض، فيجوز أنهم رأوه قبل الزوال لكبره لا لكونه لليلة الماضية، والثابت بيقين لا يزولبالشك‏.‏ وقال الحسن بن زياد‏:‏ إن غاب بعد الشفق فلليلة الماضية وقبله للراهنة‏.‏ واختلف العلماء في يوم الشك هل صومه أفضل أم الفطر‏؟‏ قالوا‏:‏ إن كان صام شعبان أو وافق صوما كان يصومه فصومه أفضل، وإن لم يكن كذلك قال محمد بن سلمة‏:‏ الفطر أفضل بناء على الحديث‏.‏ وقال نصير بن يحيى‏:‏ الصوم أفضل لما روينا عن علي وعائشة‏.‏ وعن أبي يوسف وهو المختار أن المفتي يصوم هو وخاصته، ويفتي العامة بالتلوم إلى ما قبل الزوال لاحتمال ثبوت الشهر، وبعد ذلك لا صوم وهو يمكنه الصوم على وجه يخرج من الكراهة ولا كذلك العامة‏.‏

فصل ‏[‏الجماع العمد في نهار رمضان‏]‏

‏(‏ومن جامع أو جومع في أحد السبيلين عامدا، أو أكل أو شرب عامدا غذاء أو دواء وهو صائم في رمضان عليه القضاء والكفارة مثل المظاهر‏)‏ ولا خلاف في وجوب القضاء ووجوب الكفارة بالجماع للإجماع‏.‏ ولقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي حين قال‏:‏ واقعت أهلي في نهار رمضان متعمدا‏:‏ «أعتق رقبة»‏.‏ ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من أفطر في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر»‏.‏ ولا يشترط الإنزال لوجود الجماع دونه‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة عدم وجوب الكفارة في الإيلاج في الدبر اعتبارا بالحد، والصحيح الأول لقضاء الشهوة على الكمال‏.‏ وأما المرأة فيجب عليها إذا كانت مطاوعة لعموم الحديث الثاني‏.‏ ولأن هذا الفعل يقوم بهما، فيجب عليها ما يجب عليه كالغسل والحد، وإن كانت مكرهة لا كفارة عليها كما في النسيان لاستوائهما في الحكم بالحديث، ولو أكرهت زوجها فجامعها يجب عليهما، وعن محمد‏:‏ لا كفارة عليه للإكراه، ولو علمت بطلوع الفجر دونه وكتمته عنه حتى جامعها فالكفارة عليها خاصة‏.‏ وأما وجوبها بالأكل والشرب بالغذاء والدواء فللحديث المتقدم وهذا قد أفطر‏.‏ وروى أبو داود أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ شربت في رمضان، فقال صلى الله عليه «من غير سفر ولا مرض»‏.‏ ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فقال له‏:‏ «أعتق رقبة»‏.‏ وهذا نص في الباب‏.‏ وعن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ إنما الكفارة في الأكل والشرب والجماع، فإن حاضت المرأة، أو مرض الرجل مرضا يبيح له الفطر سقطت الكفارة، لأنه تبين أن صوم ذلك اليوم لم يكن مستحقا عليه صومه، والكفارة إنما تجب بإفساد صوم مستحق عليه، بخلاف السفر لأن الكفارة وجبت حقا لله تعالى فلا يقدر على إبطالها، بخلاف الحيض والمرض لأنه ليس منه، ولو سوفر به مكرها لا يسقط أيضا‏.‏ وقال زفر‏:‏ يسقط كالمرض والحيض وجوابه أنه حصل من غير صاحب الحق فلا يجعل عذرا، بخلاف المرض والحيض‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن جامع فيما دون السبيلين، أو بهيمة، أو قبّل أو لمس فأنزل، أو احتقن، أو استعط، أو أقطر في أذنه، أو داوى جائفة أو آمة فوصل إلى جوفه أو دماغه، أو ابتلع الحديد، أو استقاء ملء فيه، أو تسحر يظنه ليلا والفجر طالع، أو أفطر يظنه ليلا والشمس طالعة، فعليه القضاء لا غير‏)‏ أما الجماع فيما دون السبيلين أو البهيمة مع الإنزال والإنزال باللمس والقبلة فلقضاء إحدى الشهوتين، وأنه ينافي الصوم ولا تجب الكفارة لتمكن النقصان في قضاء الشهوة، والاحتياط في الصوم الإيجاب لكونه عبادة، وفي الكفارات الدرء لأنها من الحدود‏.‏ وأما الاحتقان والاستعاط والإقطار في الأذن، ودواء الجائفة والآمة، فلوصول المفطر إلى الداخل وهو ما فيه مصلحة البدن من الغذاء أو الدواء‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الفطر مما دخل»‏.‏ ولو أقطر الماء في أذنه لا يفطر لعدم الصورة، والمعنى بخلاف الدهن لوجوده معنى، وهو إصلاح الدماغ‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ ومحمد لا يفسد الصوم في الجائفة والآمة، لأن الشرط عندهما الوصول من منفذ أصلي، ولعدم التيقن بالوصول لاحتمال ضيق المنفذ وانسداده بالدواء وصار كاليابس، وله أن رطوبة الدواء إذا اجتمعت مع رطوبة الجراحة ازداد سيلانا إلى الباطن فيصل، بخلاف اليابس لأنه ينشف الرطوبة فينسد فم الجراحة‏.‏

قال مشايخنا‏:‏ والمعتبر عنده الوصول حتى لو علم بوصول اليابس فسد، ولو علم بعدم وصول الرطب لا يفسد‏.‏ وأما إذا ابتلع الحديد فلصورة الإفطار، ولا كفارة لانعدامه معنى‏.‏ وأما إذا استقاء ملء فيه فلقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من قاء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء»‏.‏ روي ذلك عن عكرمة مرفوعا وموقوفا، وعند محمد وزفر يفسده وإن لم يملأ الفم ولم يفصل بينهما في ظاهر الرواية لإطلاق الحديث، والصحيح الفصل، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، لأن ما دون ملء الفم تبع للريق كما لو تجشأ ولا كذلك ملء الفم‏.‏ وأما إذا تسحر يظنه ليلا والفجر طالع، أو أفطر يظنه ليلا والشمس طالعة فإنما يفطر لفوات الركن وهو الإمساك ولا كفارة لقيام العذر وهو عدم التعمد، والكفارة على الجاني ولو جومعت النائمة والمجنونة، فسد صومهما لوجود المفطر، ولا كفارة لعدم التعمد، ولو استمنى بكفه أفطر لوجود الجماع معنى، ولا كفارة لعدم الصورة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن أكل أو شرب أو جامع ناسيا، أو نام فاحتلم، أو نظر إلى امرأة فأنزل، أو ادهن أو اكتحل، أو قبّل، أو اغتاب، أو غلبه القيء، أو أقطر في إحليله، أو دخل حلقه غبار أو ذباب، أو أصبح جنبا لم يفطر‏)‏ أما الأكل والشرب والجماع ناسيا، فالقياس أن يفطر لوجود المنافي، وجه الاستحسان قوله عليه الصلاة والسلام للذي أكل وشرب ناسيا وهو صائم‏:‏ «تم على صومك إنما أطعمك ربك وسقاك»‏.‏ وفي رواية»‏.‏ أنت ضيف الله»‏.‏ فإن ظن أن ذلك يفطره فأكل متعمدا فعليه القضاء دون الكفارة، لأنه ظن في موضع الظن، وهو القياس فكان شبهة، وعن محمد‏:‏ إن بلغه الحديث ثم أكل متعمدا فعليه الكفارة لأنه لا شبهة حيث أمره عليه الصلاة والسلام بالإتمام‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة‏:‏ لا كفارة عليه لأنه خبر واحد لا يوجب العلم‏.‏ وأما إذا نام فاحتلم لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ثلاث لا يفطرن الصائم‏:‏ القيء، والحجامة، والاحتلام»‏.‏ رواه الخدري، ولأنه لا صنع له في ذلك فكان أبلغ من الناسي؛ والإنزال بالنطر كالاحتلام من حيث عدم المباشرة، فإنه مقصور عليه لا اتصال له بغيره‏.‏ وأما الدهن فإنه يستعمل ظاهر البدن كالاغتسال‏.‏ وأما الكحل فلما روى أبو رافع أنه عليه الصلاة والسلام دعا بمكحلة إثمد في رمضان فاكتحل وهو صائم‏.‏ وأما القبلة فلما روت عائشة»‏.‏ أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبل وهو صائم» وأما الغيبة فلعدم وجود المفطر صورة ومعنى، فإن ظن أن ذلك يفطر فأكل متعمدا فعليه القضاء والكفارة، بلغه الحديث أو لم يبلغه، لأن كون الغيبة غير مفطرة قلما يشتبه على أحد لكونه على مقتضى القياس، ولأن العلماء أجمعوا على أن الغيبة لا تفطر، ولا اعتبار بالحديث في مقابلة الإجماع‏.‏ وأما إذا غلبه القيء فلما تقدم من الحديث‏.‏ وأما الإقطار في الإحليل فعندهما لا يفطر‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يفطر بناء على أن بينه وبين الجوف منفذا بدليل خروج البول، والأصح أن ليس بينهما منفذ، بل البول يترشح إلى المثانة ثم يخرج، وما يخرج رشحا لا يعود رشحا فلا يصل، والخلاف إذا وصل إلى المثانة، أما إذا وقف في القصبة لا يفطر بالإجماع، وأما دخول الغبار والذباب فلأنه لا يمكن الاحتراز عنه‏.‏ وأما إذا أصبح جنبا فلما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من غير احتلام وهو صائم، ولأن الله تعالى أباح المباشرة جميع الليل بقوله‏:‏ ‏{‏فالآن باشروهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ الآية‏.‏ ومن ضرورته وقوع الغسل بعد الصبح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن ابتلع طعاما بين أسنانه مثل الحمصة أفطر وإلا فلا‏)‏ لأن ما بين الأسنان لا يستطاع الامتناع عنه إذا كان قليلا فإنه تبع لريقه، بخلاف الكثير وهو قدر الحمصة لأنه لا يبقى مثل ذلك عادة فلا تعم به البلوى فيمكن الاحتراز عنه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويكره للصائم مضغ العلك والذوق والقبلة إن لم يأمن على نفسه‏)‏ أما مضغ العلك لما فيه من تعريض صومه للفساد، وهذا في العلك الملتصق بعضه ببعض، أما إذا كان غير ملتئم فإنه يفطره، لأنه لا يلتئم إلا بانفصال أجزاء تنقطع منه وذلك مفسد للصوم‏.‏ وأما الذوق فلأنه لا يأمن أن يدخل إلى جوفه‏.‏ وأما القبلة لما روي أن شابا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فمنعه، وسأله شيخ فأذن له، فقال الشاب إن ديني ودينه واحد، قال‏:‏ نعم، ولكن الشيخ يملك نفسه، ولأنه إذا لم يأمن على نفسه ربما وقع في الجماع فيفسد صومه وتجب الكفارة وذلك مكروه، والمباشرة كالقبلة، ويكره للمرأة مضغ الطعام لصبيها لما فيه من تعريض الصوم للفساد، فإن لم يكن لها منه بد فلا بأس، لأنه لما جاز لها الإفطار إذا خيف عليه فلأن يجوز لها المضغ كان أولى‏.‏

فصل ‏[‏جواز فطر من خاف المرض أو زيادته‏]‏

‏(‏ومن خاف المرض أو زيادته أفطر‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏ معناه‏:‏ فأفطر فعدة من أيام أخر، لأن المرض والسفر لا يوجبان القضاء ‏(‏والمسافر صومه أفضل‏)‏ لأنه عزيمة والأخذ بالعزيمة أفضل‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «المسافر إذا أفطر رخصة، وإن صام فهو أفضل»‏.‏ ‏(‏ولو أفطر جاز‏)‏ لما تلونا‏.‏ ولو أنشأ السفر في رمضان جاز بالإجماع، وإن سافر بعد طلوع الفجر لا يفطر ذلك اليوم لأنه لزمه صومه إذ هو مقيم فلا يبطله باختياره، فإن أفطر فعليه القضاء والكفارة، بخلاف ما إذا مرض، لأن العذر جاء من قبل صاحب الحق‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن ماتا على حالهما لا شيء عليهما‏)‏ لأنه تعالى أوجب عليهما صيام عدة من أيام أخر ولم يدركاها، ولأن المرض والسفر لما كانا عذرا في إسقاط الأداء دفعا للحرج، فلأن يكون الموت عذرا في إسقاط القضاء أولى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن صح وأقام ثم ماتا لزمهما القضاء بقدره‏)‏ لأنهما بذلك القدر أدركا عدة من أيام أخر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويوصيان بالإطعام عنهما لكل يوم مسكينا كالفطرة‏)‏ لأنه وجب عليهما صومه بإدراك العدة، وإن لم يوصيا لم يجب على الورثة الإطعام لأنها عبادة فلا تؤدى إلا بأمره، وإن فعلوا جاز ويكون له ثواب ذلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أو نفسيهما أفطرتا وقضتا لا غير‏)‏ قياسا على المريض والجامع دفع الحرج والضرر ‏(‏والشيخ الذي لا يقدر على الصيام يفطر ويطعم‏)‏ لأنه عاجز ولا يرجى له القضاء فانتقل فرضه إلى الإطعام كالميت، وقد قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏ أي لا يطيقونه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن جنّ الشهر كله فلا قضاء عليه‏)‏ لأنه لم يشهد الشهر وهو السبب لأنه غير مخاطب، ولهذا يصير موليا عليه ‏(‏وإن أفاق بعضه قضى ما فاته‏)‏ لأنه شهد الشهر، لأن المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ شهود بعضه، لأنه لو أراد شهود كله لوقع الصوم بعده وأنه خلاف الإجماع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن أغمي عليه رمضان كله قضاه‏)‏ لأنه مرض يضعف القوي ولا يزيل العقل، ولهذا لا يصير موليا عليه فكان مخاطبا فيقتصيه كالمريض ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام كان معصوما عن الجنون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما أنت بنعمة ربك بمجنون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 2‏]‏ وقد أغمي عليه في مرضه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويلزم صوم النفل بالشروع أداء وقضاء‏)‏ وقد مر وجهه في الصلاة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا طهرت الحائض أو قدم المسافر أو بلغ الصبي أو أسلم الكافر في بعض النهار أمسك بقيته‏)‏ ولا يجب صوم ذلك اليوم على الصبي والكافر، ولو صاموه لم يجزهم لانعدام الأهلية في أوله، والأداء لا يتجزى إلا في المسافر إذا قدم قبل نصف النهار ونوى جاز صومه لأنه أهلّ في أوله‏.‏ وأما إمساك بقية يومه لئلا يتهمه الناس والتحرز عن مواضع التهم واجب‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم» قال‏:‏ ‏(‏وقضاء رمضان إن شاء تابع وإن شاء فرق‏)‏ لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏ لم يشرط فيه التتابع وهو أفضل مسارعة إلى إسقاط الفرض ‏(‏فإن جاء رمضان آخر صامه‏)‏ لأنه وقته ‏(‏ثم قضى الأول لا غير‏)‏ لأن جميع السنة وقت قضاء إلا الأيام الخمسة، ولا يجب عليه غير القضاء، لأن النص لم يوجب شيئا آخر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن نذر صوم يومي العيد وأيام التشريق لزمه ويفطر ويقضي‏)‏ لأنه نذر بقربة وهو الصوم وأضافها إلى وقت مشروع فيه تلك القربة، فيلزم كالنذر بالصلاة في الوقت المكروه، وليس النذر معصية، إنما المعصية أداء الصوم فيها، والدليل على الشرعية قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ألا لا تصوموا في هذه الأيام»‏.‏ نهى عن الصوم الشرعي والنهي يقتضي القدرة، لأن النهي عن غير المقدور قبيح، لأن قوله للأعمى لا تبصر وللآدمي لا تطر قبيح لما أنه غير مقدور، وإذا اقتضى النهي القدرة كان الصوم الشرعي مقدورا في هذه الأيام فيصح النذر إلا أنه منهي عنه، فقلنا إنه يفطر فيها تحرزا عن ارتكاب النهي ويقضي ليخرج عما وجب عليه ‏(‏ولو صامها أجزأه‏)‏ لأنه أداه كما التزمه، كما إذا قال لله عليّ أن أعتق هذه الرقبة وهي عمياء فأعتقها خرج عن العهدة، وإن كان إعتاقها لا يجزي عن شيء من الواجبات، ولو قال‏:‏ لله علي أن أصوم هذه السنة أفطر العيدين وأيام التشريق وقضاها لما بيناه، وكذلك لو نذر سنة متتابعة، ولو نذر سنة بغير عينها يلزم صوم اثني عشر شهرا متفرقة، لأن السنة المنكرة اسم لأيام معدودة فلم يكن مضافا إلى رمضان، وفي المعينة إضافة إلى كل شهر منها، فلم تصح الإضافة إلى رمضان فلا يجب قضاؤه، والله أعلم‏.‏